القيادة الحكيمة والاستقرار- درع الأوطان وحصنها المنيع ضد التدخلات الخارجية.
المؤلف: محمد مفتي11.01.2025

إن الغوص العميق في صفحات التاريخ يظهر بجلاء أن الركيزة الأساسية لاستقرار أي دولة تكمن في قيادتها الرشيدة. فكلما ازداد تحلي القادة بالحكمة ورصانة اتخاذ القرارات، كلما تعاظمت فرصتهم في وضع مصلحة شعبهم وحمايته في صميم أولوياتهم. ولا يخفى على أحد أن صون أي دولة من أي اختراق أجنبي يتجلى في تلك الرابطة الوثيقة التي تجمع القيادة بمواطنيها، فهذه العلاقة تشكل خط الدفاع الأول الذي يحمي الوطن من أي تدخل خارجي. فالقيادة الحكيمة هي التي تنجح في غرس بذور الولاء والانتماء في قلوب وعقول كل مواطن، ليصبح كل فرد حارسًا أمينًا على أمن بلاده، متمنيًا أن يورث هذا الوطن آمنًا ومزدهرًا لأبنائه وأجيال المستقبل.
ومما لا شك فيه أن طبيعة العلاقة الاستثنائية التي تربط بين الشعوب الخليجية وقياداتها تمثل أحد الأسباب الجوهرية في تمتع هذه الدول وشعوبها بالرخاء والازدهار والاستقرار الملحوظ. وهو ما تفتقده بشدة بعض الدول التي سقطت في براثن الحروب الأهلية المدمرة التي أزهقت أرواح الأبرياء وشتتت الأسر. وهو المشهد المؤلم الذي فتك بوحدة الأمة العربية في أعقاب ما يسمى بانتفاضات الربيع العربي. فالأنظمة الاستبدادية التي جعلت من تهديد جيرانها على رأس أولوياتها كانت هي السبب المباشر في فتح الأبواب على مصراعيها للتدخلات الأجنبية السافرة، كما حدث في العراق عام 2003، وهو التدخل الذي أعقبه تفشي الجماعات المسلحة والميليشيات التي تدين بالولاء لبعض الأنظمة السياسية الخارجية.
إذا ألقينا نظرة فاحصة على الأحداث الجسام التي ألمت بسوريا منذ عام 2011 وحتى الآن، نستطيع أن ندرك أن السبب الرئيسي وراء المعاناة المستمرة التي تشهدها سوريا هو استعانة النظام بقوى خارجية لم يكن هدفها الأول حماية الشعب السوري، بل السيطرة على مفاصل الدولة نفسها، لتصبح ولاءاتها بشكل كامل لتلك القوى الخارجية، وحتى تتمكن من بسط نفوذها على دول أخرى مجاورة كسوريا، فمنذ اندلاع شرارة الحرب الأهلية في سوريا تدخلت قوى خارجية بشكل سافر، مما أثر سلبًا على الوضع في الشارع السوري. كما أن تدخلات حزب الله المتكررة دفعت العالم بأسره للتساؤل عمن يتحكم في السياسة السورية. بالإضافة إلى ذلك، فإن استعانة النظام السوري بروسيا، حليفته الاستراتيجية، أضعف من قوة النظام وفكك سيادته، وهو الأمر الذي شجع وبقوة الميليشيات المسلحة المنتشرة هناك – وبعض الدول الخارجية مثل تركيا – على التدخل في الأراضي السورية لحماية حدودها المتاخمة.
ومما لا ريب فيه أن التحالفات العسكرية بين الدول هي استراتيجية سياسية وعسكرية لا غبار عليها، إذ تعتمد الكثير من الدول على دعم الدول الصديقة لها في بعض المواقف والأزمات الحرجة، ولكن بشرط أساسي، وهو أن تتمتع الحكومة المركزية بالقوة وبكامل السيادة على أراضيها، وبشكل يسمح لها بفرض طبيعة ومدى ونتائج هذا التحالف بما يتناسب مع أهدافها ومصالح شعبها، ودون أن يؤدي ذلك بأي حال من الأحوال إلى فقدانها لاستقلالها وسقوطها في براثن التبعية. ومن الجدير بالذكر أن التحالف السوري مع حزب الله وروسيا لم يتبع هذه الأسس، فقد حرص حزب الله على أن تكون له الكلمة العليا في تحديد السياسات السورية، وقد يكون النظام السوري مجبرًا على التغاضي عن ذلك لكبح جماح الميليشيات المسلحة ومنع سقوط النظام نفسه، غير أن الأمر الأكثر خطورة في هذه التحالفات هو أن الهدف الرئيسي منها هو فرض أجندة خارجية ترفضها جموع الشعب السوري.
في الأيام القليلة الماضية، تلقى النظام السوري ضربات عسكرية موجعة من قبل بعض الميليشيات المسلحة المدعومة من قوى خارجية، ولعل هذه الضربات كانت متوقعة وغير مستغربة على الإطلاق. فعقب تلقي حزب الله العديد من الضربات المؤلمة التي قصمت ظهر قياداته وأثرت سلبًا على عتاده البشري والعسكري، وأصبح مكشوفًا وسهل التعقب لإسرائيل والولايات المتحدة، بدأ وجوده يتلاشى تدريجيًا في الداخل السوري، حيث شرع في ترتيب صفوفه ومحاولة العودة إلى معقله الأصلي في لبنان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أما روسيا، فهي في موقف لا تحسد عليه، ولم تعد قادرة على دعم النظام السوري بنفس القوة أو الحماسة التي كانت تفعلها في السابق، فهي غارقة في المستنقع الأوكراني الذي يتوسع يومًا بعد يوم بدعم أمريكي وأوروبي. ونتيجة لذلك، لم تعد سوريا على رأس أولويات روسيا كما كانت في الماضي. ولا شك أن كل هذه العوامل وغيرها كانت سببًا أساسيًا في استعادة المعارضة السورية لنشاطها وعودتها إلى سابق عهدها، وتوجيه الضربات القاصمة للنظام السوري بلا هوادة، بعد أن أصبحت موارده العسكرية المحدودة غير قادرة على مواجهة تلك الميليشيات المسلحة، مما قد يؤدي إلى سقوط سوريا بالكامل في يد الميليشيات المسلحة ويمهد لتقسيمها في المستقبل القريب.
